إثيوبيا والبحر الأحمر- طموحات متصاعدة واتفاقيات جيوسياسية مثيرة للجدل

أدهش الاتفاق المبرم مؤخرًا بين رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد ورئيس إقليم أرض الصومال، الذي لا يحظى باعتراف دولي، العالم أجمع. وبموجب هذا الاتفاق، تم إقرار سيادة إثيوبيا على ميناء بربرة الاستراتيجي المطل على البحر الأحمر.
والحقيقة أن آبي أحمد قد أرسى بالفعل الأسس لهذا الاتفاق، وذلك في خطابه الذي أثار جدلًا واسعًا في منتصف شهر أكتوبر الماضي. وقد أثار هذا الخطاب تساؤلات جوهرية حول طموحات إثيوبيا في المنطقة. وأشار آبي أحمد إلى أن بلاده، التي يقطنها ما يقارب 150 مليون نسمة، لن تبقى أسيرة لجغرافيتها، وأكد أن الوصول إلى منفذ بحري يمثل ضرورة قصوى لإثيوبيا، ملمحًا إلى سعيها لتحقيق هذا الهدف سواء سلمًا أو بالقوة. وتضمن خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي عبارة تحتمل تفسيرات عدة، حيث ذكر أن النيل والبحر الأحمر يشكلان أساسًا لتنمية إثيوبيا. وهنا يبرز تساؤل منطقي: ما الداعي لذكر النيل في سياق يتعلق بالوصول إلى البحر الأحمر، علمًا بأن إثيوبيا تعتبر منبعًا للنيل ولم ينازعها أحد في ذلك؟
أكدت حكومة إقليم أرض الصومال أنها منحت إثيوبيا الحق في فرض سيطرتها العسكرية والتجارية على ميناء بربرة لمدة خمسين عامًا، وهو ما يعني قانونًا أن هذه المنطقة ستؤول ملكيتها وإدارتها المباشرة إلى الحكومة الإثيوبية.
إذا نظرنا إلى الخريطة السياسية للعالم، سنجد أن إثيوبيا ليست الدولة الوحيدة المحرومة من الوصول إلى البحار، بل هناك أكثر من أربعين دولة حبيسة في العالم، بعضها كبير وبعضها الآخر يؤدي دورًا حيويًا على الساحة الدولية، مثل سويسرا والنمسا وكازاخستان. وبالقرب من إثيوبيا، نجد أوغندا وجنوب السودان وملاوي وغيرها، إلا أن هذه الدول لم تثُر على واقعها الجغرافي ولم يمنعها موقعها من التطور والازدهار ولعب دور إقليمي أو حتى دولي. فلماذا تسعى إثيوبيا إلى أن تكون استثناء؟ إن هذا التمرد الإثيوبي على حقائق الجغرافيا يوحي بأن أديس أبابا مصممة على التوسع في محيطها الحيوي على حساب جيرانها، ربما من أجل الاضطلاع بدور سيُكشف عنه المستقبل.
لقد لفت خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي انتباه الرأي العام إلى استعداد أديس أبابا للتحرك في المناطق المتاخمة جغرافيًا؛ بهدف الوصول إلى المياه الدافئة. ورأى العديد من المحللين أن تصريحات آبي أحمد تنذر باحتمال تحول الصراع بين إثيوبيا وإريتريا إلى مواجهة عسكرية في عام 2024، وهو خيار لا يزال مطروحًا على الرغم من التحديات التي تعترض سبيله.
فمنذ استعادة إريتريا لاستقلالها في عام 1993، مُنعت إثيوبيا من الوصول إلى البحر الأحمر بعد سيطرة إريتريا على ميناءي عصب ومصوع. ولم تستسلم إثيوبيا لهذا الواقع، وظلت تبحث منذ ذلك الحين عن سبيل لاستعادة الوصول إلى هذه المياه الحيوية. قد يتساءل البعض عن سبب عدم لجوء إثيوبيا إلى موانئ أخرى في دول الجوار، مثل ميناء جيبوتي الذي تستخدمه حاليًا، أو ميناء مومباسا في كينيا، أو حتى ميناء بورتسودان في السودان.
والواقع أن إثيوبيا لا تحتاج إلى ميناء لتصدير بضائعها إلى الخارج، فهذا الأمر متاح في دول الجوار الساحلية. لكن طموح أديس أبابا يتجاوز ذلك، فهي تتطلع إلى امتلاك ميناء تديره بنفسها لتعزيز نفوذها السياسي والعسكري، ولعب دور محوري ومؤثر في تأمين هذا الممر البحري الحيوي، الذي تزداد أهميته مع التطورات في قناة السويس.
لا يزال الخيار العسكري للاستيلاء على موانئ إريتريا، التي تعرفها إثيوبيا جيدًا، واردًا ومتداولًا في التفكير الاستراتيجي الإثيوبي. إلا أن بعض المحللين يرون أن الوقت غير مناسب لهذا الخيار في ظل وجود الرئيس أسياس أفورقي، الذي يتمتع بشراسة القتال وبراغماتية السياسة ويقود جيشًا متماسكًا تحركه الروح الثورية والقومية والعداء لإثيوبيا. ومع ذلك، ستظل أنظار أديس أبابا مصوبة نحو موانئ إريتريا، وستعمل بصمت لتحقيق هذا الهدف، وتسعى ربما لاحتواء النظام السياسي الإريتري الذي قد ينشأ في حال غياب الرئيس أفورقي.
وفي سياق سعيها لترسيخ سياسة احتواء إريتريا، تعمل إثيوبيا على إضعاف السودان وإلهائه بصراعات سياسية لا طائل منها، وتدعم تشكيل حكومة ضعيفة في الخرطوم، مع الأخذ في الاعتبار أن السودان هو الدولة الوحيدة التي يمكن أن تؤثر على إريتريا بسبب الروابط الاجتماعية والاقتصادية المتينة بين البلدين، وهو ما يعيق تمدد النفوذ الإثيوبي الرامي إلى استيعاب المناطق الحدودية وابتلاع أسمرة.

ميناء بربرة.. الصفقة الغامضة
في الوقت الذي كانت فيه الأنظار متجهة نحو الصراع المحتمل بين إريتريا وإثيوبيا من أجل ضمان وصول الأخيرة إلى المياه الدافئة، فاجأ رئيس الوزراء الإثيوبي العالم باتفاق مبهم مع إقليم أرض الصومال، الذي يفتقر إلى الاعتراف الدولي. يتضمن هذا الاتفاق استئجار ميناء بربرة المطل على البحر الأحمر، والذي يتمتع بموقع استراتيجي على خليج عدن ومضيق هرمز. ولم يتم الكشف عن تفاصيل هذا الاتفاق حتى الآن، إلا أن تصريحات الطرفين قدمت صورة عامة عنه.
وأكدت حكومة إقليم أرض الصومال أنها سمحت لإثيوبيا بفرض سيطرتها العسكرية والتجارية على ميناء بربرة لمدة نصف قرن، وهو ما يعني بلغة القانون أن هذه المنطقة ستصبح ملكًا للحكومة الإثيوبية وتحت إدارتها المباشرة، مما يعني أن إثيوبيا قد أصبحت دولة ساحلية على البحر الأحمر. وسيستأنف سلاحها البحري، الذي توقف عن العمل منذ استقلال إريتريا في عام 1993، نشاطه في البحر الأحمر، وستصبح إثيوبيا شريكًا في جميع الترتيبات الأمنية لهذا الممر المائي الحيوي. لذلك، نحن لسنا بصدد اتفاق يهدف إلى تعزيز التجارة فحسب، بل أمام اتفاقية ذات أبعاد جيوسياسية وأمنية كبيرة على المنطقة.
وذكرت حكومة أرض الصومال أن إثيوبيا وعدت بالاعتراف بأرض الصومال كدولة مستقلة، وهو ما لم يتحقق لـ "أرض الصومال" منذ انفصالها عن الصومال في عام 1991. ومن ناحية أخرى، أكد مصدر إثيوبي موثوق أن أرض الصومال ستحصل على حصة من أسهم شركة الخطوط الجوية الإثيوبية، التي تعتبر عملاقًا في مجال النقل الجوي الأفريقي. وهذا العرض يثير اهتمامًا بالغًا.
وقد أثار هذا الاتفاق الغامض موجة عارمة من الغضب والاستياء في دول الإقليم. وسارعت الحكومة الصومالية الشرعية إلى الرد بحزم، حيث رفض البرلمان الصومالي هذا الاتفاق وألغته الحكومة الشرعية في مقديشو. واعتبرت الحكومة الصومالية أن أرض الصومال جزء لا يتجزأ من الصومال، وأنها لا تملك الأهلية القانونية لإبرام مثل هذا الاتفاق. وقررت الصومال أيضًا استدعاء سفيرها في إثيوبيا؛ احتجاجًا على هذا التصرف الذي يتجاوز جميع القوانين والأعراف الدولية.
وفي المقابل، رفضت دول الإقليم هذا الاتفاق من طرف واحد، مؤكدة أن أرض الصومال لا تملك الصفة القانونية لإبرامه. وكانت جمهورية جيبوتي الأكثر تضررًا من هذا الاتفاق، حيث ستتكبد خسائر فادحة تتجاوز المليار دولار، وهي الرسوم التي كانت تحصل عليها سنويًا مقابل مرور 95% من تجارة إثيوبيا عبر ميناء جيبوتي. كما أن الاعتراف الإثيوبي الضمني بإقليم أرض الصومال يعرقل المشروع الطموح الذي يرعاه الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي لتوحيد شمال وجنوب الصومال، والذي حقق تقدمًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة.
بينما لا يزال رد فعل الاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) ضبابيًا ومترددًا.
التنمر على النظام الدولي
يواجه هذا الاتفاق المثير للجدل تحديات جمة، سواء من الناحية القانونية أو الموضوعية، وهو ما يجعله وثيقة عديمة القيمة في نظر القانون الدولي. فالمنطق الذي تتبناه الحكومة الصومالية الشرعية واضح ومقنع، إذ أن ما يسمى بـ "جمهورية أرض الصومال" تفتقر إلى أي شرعية قانونية. إلا أن الحكومة الصومالية لا تستطيع أن تفعل أكثر من الاحتجاج في المحافل القارية والدولية، فهي دولة لا تزال في مرحلة التعافي الهش، وتتباين مواقف أحزابها بشأن العلاقة مع إثيوبيا.
كما أن المشهد الدولي بعد حرب غزة، واستهتار إسرائيل بجميع القيم والمواثيق الدولية، يؤكدان أن منطق القوة والنفوذ الذي تمارسه الدول الكبرى أقوى من المواثيق الدولية والنصوص القانونية التي لا تدعمها قوة. فالسيف أصدق إنباءً من الكتب.
وبفضل النفوذ الدولي الذي تتمتع به إثيوبيا، قد تمضي قدمًا في تنفيذ هذا الاتفاق دون الاكتراث بانتقادات دول الجوار. ولا شك أن إثيوبيا قد حصلت على موافقة من واشنطن قبل توقيعها على الاتفاق مع أرض الصومال، وذلك لأن أمن البحر الأحمر أصبح ملفًا ذا أهمية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو). وتسعى هذه الدول بالأساس إلى الحد من تأثير روسيا والصين في المنطقة والتحكم فيها. ولا يمكن للولايات المتحدة، التي تحتفظ بقاعدة عسكرية مهمة في جيبوتي، ألا تكون على علم مسبق بالتوسع الإثيوبي في البحر الأحمر. وهذا يعني أيضًا أن فرنسا لديها علم وموافقة ضمنية على هذا الأمر.
سد النهضة وسياسة الأذن الصماء
في ختام هذا المقال، نعود إلى تصريح رئيس الوزراء الإثيوبي بأن النيل والبحر الأحمر يشكلان أساسًا لتنمية بلاده، ونتساءل عن سبب إقحام النيل في هذا الصراع الاستراتيجي. إن المعنى الضمني لهذا التصريح هو أن رئيس الوزراء يريد أن يقول إن بلاده، في سبيل الحصول على موطئ قدم على ساحل البحر الأحمر، ستتبع نفس سياسة التجاهل التي انتهجتها في إدارة ملف سد النهضة.
فعلى مدى عقد كامل من الحوار والاجتماعات بين إثيوبيا ودولتي الممر والمصب (السودان ومصر)، لم تتوقف إثيوبيا أبدًا عن المضي قدمًا في تنفيذ مشروع سد النهضة حتى أصبح السد حقيقة واقعة. لقد أثارت مصر والسودان مخاوف جوهرية بشأن سد النهضة وقدمتا العديد من الحلول، إلا أن إثيوبيا تصر على عنادها وترفض التوقيع على أي اتفاق قانوني ملزم فيما يتعلق بملء وتشغيل السد.
ويؤكد الواقع أن إثيوبيا، المحمية من قبل القوى الكبرى وحلفائها، ستواصل سياسة التجاهل حتى تحقق هدفها في الحصول على موطئ قدم على البحر الأحمر. وإذا تفحصنا الأمر بعمق، فسنجد أن الحلفاء الذين دعموا ومولوا بناء سد النهضة هم أنفسهم الذين يدعمون إثيوبيا في مشروعها للوصول إلى مياه البحر الأحمر الدافئة. والمعنى واضح.
